فصل: وَوَاجِبٌ تَعْيينُ وَقْتِ السَّفَرِ *** في السُّفُنِ وَالْمَقَرِّ لِلّذِي اكتُرِي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة ***


ويُمْنَعُ التَّأجِيلُ في المَضْمُونِ *** وَمُطْلَقاً جَازَ بذِي التعْيين

‏(‏ويمنع التأجيل‏)‏ للأجر ‏(‏في‏)‏ الكراء ‏(‏المضمون‏)‏ وظاهره منع التأجيل ولو شرع في السير وليس كذلك، بل إذا شرع ولو حكماً كتأخير شروعه اليومين والثلاثة لم يمنع تأجيله، وإنما كان الشروع حكماً كالشروع بالفعل لأن حكم الكراء المضمون حكم السلم في جواز التأخير ثلاثة أيام كما في المقدمات، وإنما جاز التأجيل مع الشروع ولو حكماً لأن قبض أوائل المنفعة قبض لأواخرها، فلا يلزم ابتداء الدين بالدين المرتب على التأجيل وعدم الشروع، وهذا إذا كان العمل المشروع فيه يسيراً كما في المقدمات، فإن كان كثيراً وجب تعجيل الأجر سواء شرع أم لا‏.‏ إذ لا يكون قبض الأوائل كقبض الأواخر إلا في اليسير، وظاهر النظم أيضاً أن التأجيل ممنوع ولو للبعض وليس كذلك، بل كل كراء مضمون لا يركب فيه إلا في وقت معلوم، ووقع العقد قبل حصول وقته كان كراء حج أو غيره يكتفي فيه بتعجيل اليسير، ويجوز تأجيل ما بقي كما قاله مالك لاقتطاع الأكرياء أموال الناس، وأما إن وقع بعد حصول وقته فلا بد من الشروع ولو حكماً أو تعجيل جمع الأجر إذ لا ضرورة حينئذ تستدعي تعجيل اليسير فقط، ‏(‏ومطلقاً جاز بذي التعيين‏)‏ أي وجاز عقد الكراء مطلقاً كان الأجر معجلاً أو مؤجلاً في الدابة المعينة أو السفينة المعينة كهذه الدابة أو السفينة ونحو ذلك، ومحل الجواز مع التعجيل إذا كان يستوفي المنافع في الحال أو يؤخر استيفاءها الأيام القلائل كالعشرة وإلاَّ لم يجز لتردد النقدين الكراء إن لم تهلك والسلف إن هلكت كما قال ‏(‏خ‏)‏ في الخيار عاطفاً على المنع وأجير تأخر شهراً وأما مع التأجيل للنقد فيجوز تأخير استيفائها الشهر ونحوه كما قال في الإجارة وكراء دابة شهراً إن لم ينقد‏.‏

تنبيه‏:‏

وكما يجب التعجيل للأجر في الكراء المضمون الذي لم يشرع فيه كذلك يجب تعجيل الأجر المعين كثوب مثلاً‏.‏ وحاصله؛ أن الأجرة إذا كانت معينة كثوب بعينه أو دراهم بعينها فإنه يجب تعجيلها ويقضى به لحق الله تعالى سواء اشترط التعجيل أم لا‏.‏ كان المستوفي منه المنفعة معيناً أم لا‏.‏ والإجارة صحيحة مع الشرط ولو لم يعجل بالفعل، وكذا مع عدمه إن كان عرفهم التعجيل فإن كان عرفهم التأخير أو لا عرف أصلاً ولم يشترط التعجيل فسدت ولو عجلت بالفعل، وأما إن كانت الأجرة غير معينة كدراهم أو ثوب في الذمة، فإنما يجب التعجيل إن كان المستوفى منه مضموناً لم يشرع في استيفاء منافعه فإن كان معيناً فلا يجب التعجيل ولا يقضي به عند طلبه إلا إذا اشترطه أو جرى العرف به، لأن أصل ابن القاسم أن الثمن في الإجارة على التأخير إلى تمام العمل إلا أن يشترطه أو يجري العرف به فيقضي له بتعجيله حينئذ، وبالجملة مهما اشترط التعجيل أو جرت العادة به ففي المعين يجب التعجيل مضمونة كانت أم لا‏.‏ وكذا غير المعين في المضمونة لا بد فيه من التعجيل لحق الله في الجميع للزوم بيع معين يتأخر قبضه في الأولين وللزوم ابتداء الدين بالدين في الثالث، وأما غير المعين في غير المضمونة ففي الشرط أو العادة يقضي به فقط لأن الحق حينئذ للآدمي، وهذا معنى قول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وعجل إن عين بشرط أو عادة أو في مضمونه لم يشرع فيها إلاَّ كراء حج فاليسير إلى قوله‏:‏ وفسدت إن انتفى عرف تعجيل المعين الخ‏.‏ إلا أن عبارته رحمه الله غير موفية بالمراد، فلو قال‏:‏ وعجل بشرط أو عادة في المعين مطلقاً كغيره في المضمونة وتفسد بعدمه كانتفاء عرف تعجيل المعين لا غيره في غيرها، ويقضي به فقط مع الشرط أو العادة لأجاد والله أعلم‏.‏

وحيثُ مُكْتَرٍ لعُذْرٍ يَرْجِعُ *** فَلاَزِمٌ لهُ الكِرَاءُ أَجْمَعُ

‏(‏وحيث مكتر‏)‏ دابة ليزف عليها عروساً أو ليشيع عليها رجلاً أو ليركبها لموضع كذا أو اكتراها لحج أو ليركبها في يوم كذا فتركها حتى مضى اليوم ‏(‏لعذر‏)‏ من مرض أو عدم رفقة أو سقط أو مات أو حبسه غريم في دينه ونحو ذلك من الأعذار التي عاقته عن العمل عليها ‏(‏ يرجع‏)‏ عن ذلك الزفاف ونحوه ‏(‏فلازم له الكراء أجمع‏)‏ إن كان حياً أو لورثته إن مات وله أو لوارثه كراء الدابة في مثل ما اكتراها له حيث كان الزمان الذي اكتراها للركوب فيه باقياً قاله في المدونة ونحوه قول ابن سلمون‏:‏ ومن اكترى دابة إلى موضع فرجع بها من الطريق فالكراء لازم له يعني‏:‏ وله أن يكريها في مثله، وبالجملة فكل ما تستوفى به المنفعة لا تنفسخ الإجارة بتلفه أو وجود عائق كموت المكتري للدابة ومرضه وحبسه وعدمه رفقة ونحو ذلك كتلف المتاع المحمول على الدابة أو أخذ اللصوص له أو موت الأمة المبعوثة معه بأجر ليوصلها لفلان، سواء تلف أو غصب قبل الخروج أو بعده، وكل ما تستوفى منه المنفعة تنفسخ الإجارة بتلفه كموت الدابة المعينة وانهدام الدار المكتراة، ونحو ذلك كما مرّ في البيت قبله، والناظم تكلم على الكلية الأولى وسكت عن الثانية و‏(‏خ‏)‏ تكلم عليهما معاً حيث قال‏:‏ وفسخت بتلف ما يستوفى منه لا به واستثنوا من الكلية التي تعرض لها الناظم أربع مسائل وهي صبيان وفرسان صبي التعليم والرضاعة وفرس النزو والرياضة فقالوا‏:‏ إن الإجارة تنفسخ فيها وله من الكراء بحساب ما عمل مع كونها مما تستوفي بها المنفعة وألحقوا بذلك كما في الشامل وغيره المؤاجرة على الحصاد فيتلف الزرع وليس لربه غيره وعلى بناء حائط فيمنع من البناء مطر ونحوه وثوب يدفع لخياط أو غزل يدفع لنساج فيتلف كل منهما وليس لربهما غيره، والطبيب يؤاجر لمداواة العليل مدة فيموت العليل قبلها والمؤاجرة على ثقب جوهر نفيس فينكسر وعلى الحراثة فينكسر المحراث ونحو ذلك قال في ضيح‏:‏ والعلة فيها كلها تعذر الخلف غالباً اه‏.‏ وعليه فالمدار على تعذر خلف المستوفى به فلا مفهوم للمسائل الأربع ولا لما ألحقوه بها والحق أنهما قولان‏.‏ مذهب المدونة وهو الذي شهره في البيان أن الإجارة لا تنفسخ في ذلك وعليه جميع الكراء وله أن يستعمله في مثله، وهو ما درج عليه الناظم و‏(‏خ‏)‏ وصححه ابن شاس وابن الحاجب، والقول الآخر إنها تنفسخ وعليه درج في المتيطية في تخلفه عن زفاف العروس، واستظهره ‏(‏م‏)‏ في البيت بعده وشهره في المقدمات قائلاً‏:‏ المشهور انفساخ الإجارة إذا تلف ثوب الخياطة، ومراده إذا كان اللباس يتعذر خلفه حينئذ لا للتجارة ولعدم تعذر خلفه، فهما قولان‏.‏ شهر كل منهما، لكن محل الخلاف إذا لم يجر العرف بالفسخ عند تعذر المستوفى به، وإلاَّ فيعمل بالعرف لأنه كالشرط فكأنه اشترط عليه أنه إن عاقه عائق انفسخ العقد بينهما، وربما يرشد إليه قول ابن عرفة‏:‏ لا يدخل هذا الخلاف في نوازل وقتنا بتونس لأن العرف تقرر عندهم بفسخ الإجارة بكثرة المطر ونزول الخوف اه‏.‏ والعرف عندنا بفاس اليوم الفسخ بحصول العذر حتى إنك لا تجد اثنين يختلفان في ذلك والله أعلم‏.‏ وهذا كله في تخلف المكتري للعذر المذكور، وأما لو خالف المكري فلم يأت بالدابة فقال فيها‏:‏ وإن اكترى دابة إلى بلد ليركبها في غده فأخلفه المكري ولم يأته بها إلا بعد يومين أو ثلاثة فليس له إلا ركوبه، ولو فاته ما كان يرومه أي من تشييع رجل ونحوه، وإن اكتراها أياماً معينة انتقض الكراء فيما غاب منها كالعبد المستأجر شهراً بعينه يمرض فيه فتفسخ إجارته اه‏.‏ فقولها‏:‏ ولو فاته ما كان يرومه الخ‏.‏ قال ابن المواز‏:‏ لأن ذلك كشراء سلعة بعينها أو مضمونة يدفعها غداً فما له بذلك حتى فات ما يريد فلا حجة له، وإنما له السلعة‏.‏ وقال مالك في الأضاحي‏:‏ يسلم فيها فيأتيه بها بعد أيام النحر اه‏.‏ وهو معنى قول ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على ما لا تنفسخ فيه أو خلف رب الدابة في غير معين وحج، وإن فات مقصده الخ‏.‏

تنبيه‏:‏

إذا ضلت الدابة بالمتاع فلا كراء لصاحبها فإن أدى جعلا لمن جاء بها فالجعل على رب الدابة وإن ضلت بتفريطه فغرم قيمتها، ثم وجدت بعد ذلك ولم تتغير فأراد ربها أخذها ورد القيمة فليس له ذلك وهي للذي غرم قيمتها كما في ابن سلمون‏.‏ وفي المدونة وكل ما عطب من سبب حامله من دابة أو غيرها فلا كراء فيه إلا على البلاغ، ولا يضمن الجمال إلا أن يغر أي يتعدى، وكذلك ما حمله الرجل على ظهره فعطب فلا كراء له ولا ضمان عليه، وكذلك السفينة إذا غرقت في ثلثي الطريق فلا كراء لها ولا ضمان عليه في شيء مما فيها‏.‏ ورأى مالك أن ذلك على البلاغ‏.‏ ابن يونس‏:‏ وجه قول مالك إنه إنما دفع إليه الكراء ليحصل له غرضه فلم يحصل له شيء فأشبه ذلك الجعل الذي بطلان تمامه من أجل الأجير، وأيضاً العرف قد جرى بين الناس أن الكراء في ذلك على البلاغ فكان المكري دخل عليه إلا أن يشترط عليه كل ما سار شيئاً أخذ بحسابه فله ذلك اه‏.‏

وَوَاجِبٌ تَعْيينُ وَقْتِ السَّفَرِ *** في السُّفُنِ وَالْمَقَرِّ لِلّذِي اكتُرِي

‏(‏وواجب تعيين وقت السفر في‏)‏ كراء ‏(‏السفن‏)‏ بسكون الفاء لضرورة الوزن، وكذا يجب تعيين وقت السفر في كراء الدابة أيضاً لاختلاف الأسفار غلاء ورخصاً باختلاف الأوقات في كرائهما معاً فلا مفهوم للسفن في وجوب التعيين ‏(‏و‏)‏ وجب أيضاً تعيين ‏(‏ المقر‏)‏ الذي ينتهي إليه السير ويوضع المتاع فيه ‏(‏للذي اكتري‏)‏ ولا يضربا لذلك أجلاً لاختلاف الرياح والسير في الدابة فإن ضرباه فسد الكراء كما قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وهل يفسد إن جمعهما أي العمل والأجل وتساويا أو مطلقاً خلاف‏.‏

وَهُوَ عَلَى الْبَلاَغِ إنْ شَيءٌ جَرَى *** فيها فَلاَ شَيْءَ لَهُ مِع الْكِرَا

‏(‏وهو‏)‏ أي كراء السفن عند مالك وابن القاسم ‏(‏على البلاغ إن شيء جرى فيها‏)‏ أي السفن ‏(‏فلا شيء له‏)‏ أي لربها ‏(‏من الكرا‏)‏ ء لأنها كالجعل الذي لا يستحق الأجر فيه إلا بتمام العمل فمحل كرائها على الجعالة إلا أن يشترط أن له بحساب ما سار فتكون إجارة كما مرّ بالإشارة إلى ذلك قبل هذا البيت، وتقدمت الإشارة إليه أيضاً أول كراء الدور، وظاهره أنه يجوز النقد فيها وهو كذلك على المشهور، وظاهره أنه لا كراء لربها ولو غرقت بمرسى محل النزول وهو كذلك إلا أن يفرط رب المتاع فلم ينقل متاعه بفور النزول حتى غرقت، فإنه يلزمه الكراء كله حينئذ، وكذا لو شرعوا في التفريغ فغشيهم الموج ومنعهم منه حتى غرق بعضه وسلم البعض الآخر، فإن كراء السالم لازم، وكذا لو غرقت في أثناء الطريق وسلمت حملاتها كلها أو بعضها فاكترى رب المتاع سفينة أخرى وحمل متاعه فيها، فإن لرب السفينة الأولى من الكراء بقدر ما انتفع به رب المتاع السالم ببلوغه إلى الموضع الذي غرقت فيه كما قالوا في البئر يحفر بعضها ثم يترك ويكملها غيره أن للأول بقدر ما انتفع به رب البئر، ولا فرق على ما درج عليه الناظم من أن كراءها على البلاغ بين وقوع الكراء على قطع البحر أو الريف أمكنهم النزول في قرية حاذوها أم لا‏.‏ كانوا مسافرين بالريح أو بغيره‏.‏ وقال ابن نافع‏:‏ كراؤها ككراء الدابة فإذا غرقت أو ردّها الريح أو اللصوص فيلزمه من الكراء بحسب سيرها‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ إن وصلت لمحل يمكن السفر منه أو حاذوه فردتهم الريح أو اللصوص فكالدابة وإلا فعلى البلاغ، وعلى المشهور من أنها على البلاغ لو زادت به الريح على المحل المقصود فلا كراء له إلا أن يرده المقصود، وإن عرض لهم العدو أو هول في البحر فليقصدوا موضعاً للنزول فيه حتى يتهيأ لهم السفر، ومن أراد منهم أن ينزل أو ينزل متاعه فذلك له وعليه أداء الكراء كله‏.‏ انظر ابن سلمون‏.‏

تنبيه‏:‏

ويجب طرح ما ترجى به نجاة المركب من المتاع لخوف غرق ولا يطرح الآدمي ولو ذمياً‏.‏ وقال اللخمي‏:‏ إذا خشوا الهلاك إن لم يخفف من المركب فيقرع على من يرمى حتى من الآدمي والرجال والعبيد، وأهل الذمة في ذلك سواءْ ابن عرفة‏:‏ ونسبة بعضهم لخرق الإجماع إذ لا يرمى الآدمي لنجاة غيره ولو ذمياً، وقاعدة الإجماع على وجوب ارتكاب أخف الضررين لدرء أشدهما شاهدة لقول اللخمي وهي هنا، وإن كانت لإتلاف النفس فهي فيه لحفظها اه‏.‏

فصل في أحكام الإجارة

مأخوذة من الأجر الذي هو الثواب فمعنى آجره استعمله بأجر أي بثواب على عمله من قولهم‏:‏ آجرك الله أي أثابك‏.‏ عياض‏:‏ يقال أجرت فلاناً وآجرته بالقصر والمد، وكذلك أجره الله وآجره والإجارة بيع منافع معلومة بعوض معلوم وهي معاوضة صحيحة يجري فيها جميع ما يجري في البيوع من الحلال والحرام، فلا بد أن تكون المنفعة والأجر مقدوراً على تسليمهما منتفعاً بهما ظاهرين إلى غير ذلك مما يشترط في البيع، وعرفها ابن عرفة بقوله‏:‏ ببيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا ينقل بعوض غير ناشىء عنها بعضه يتبعض بتبعيضها الخ‏.‏ فقوله‏:‏ بيع أطلق البيع على العقد لأن الإجارة مباينة للبيع لا تدخل فيه، ولا بد أن يأتي في الحد بالجنس الشامل للمحدود وغيره، ثم يخرج غيره بالفصول فلو قال‏:‏ عقد على منفعة الخ‏.‏ لكان أحسن قاله الرصاع وخرج بقوله منفعة بيع الذوات، وبقوله ما أمكن نقله كراء الدور والأرض، وبقوله ولا حيوان لا يعقل كراء الرواحل، وبقوله غير ناشىء عنها القراض والمساقاة لأن المعقود عليه فيهما منفعة العامل والثمرة والربح ناشئان عن عمله، والضمير في قوله بعضه عائد على العوض، وفي تبعيضها على المنفعة، وخرج بقوله الجعل لأنه لا يتبعض فيه العوض بتبعيض المنفعة فقوله‏:‏ بعضه الخ‏.‏ مخرج للجعل ومدخل للنكاح الذي وقع صداقه منفعة ما يمكن نقله أي‏:‏ بعضه يتبعض بتبعيضها وبعضه لا يتبعض كالبضع، فإنه لا يتبعض بتبعيض المنفعة بهذا أجاب ابن عرفة عن زيادة لفظة بعضه الخ‏.‏ بعد ما توقف هو وأهل مجلسه في زيادتها، ورغب الله تعالى في فهمها ولو قال‏:‏ جله يتبعض بتبعيضها يعني وغير الجل لا يتبعض كالبضع الواقع في مقابلة الوارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين‏}‏ ‏(‏القصص‏:‏ 27‏)‏ الآية لكان أوضح وبعد هذا يعترض عليه كما للوانوغي بأنه يلزمه دخول الجعل بما دخل به النكاح فيلزم فساد طرده على أنه لو حذف لفظة بعضه، واقتصر على ما بعده لم يلزم خروج النكاح لأن تبعيض المنفعة فيه يوجب للأجير الرجوع في صداق المثل لأن المنفعة إنما وقعت في مقابلته حكماً، فإذا تبعضت تبعض مقابلها الذي هو صداق المثل فيأخذ منفعته منه، فالصواب حذف لفظة بعضه‏.‏

فرع‏:‏ قال البرزلي‏:‏ صدر الإجارة في كتاب الغرر منها أن قال‏:‏ بعتك سكنى داري سنة فذلك غلط في اللفظ وهو كراء صحيح، فأخذ منها إذا تعارضت الحقيقة المرجوحة، والمجاز الراجح عمل عليه، وفيه أقوال في أصول الفقه اه‏.‏ وكذلك قال في كتاب الصرف، منها‏:‏ إن صرفت منه ديناراً بدرهم على أن تأخذ بها سمناً أو زيتاً وتسمى صفته ومقداره نقداً أو مؤجلاً، أو على أن تقبضها ثم تشتري منه هذه السلعة لأجل السلم فذلك جائز، والكلام الأول لغو فإن ردت السلعة بعيب رجعت بدينارك لأن البيع إنما وقع بالدينار، وإنما ينظر مالك إلى فعلهما لا إلى قولهما، وتأمل قول ‏(‏خ‏)‏ في العارية والأطعمة والنقود قرض، وانظر ما تقدم في التنبيه الخامس من التصيير فإن هناك ما يوافقه‏.‏

العَمَلْ الْمَعَلُومُ مِنْ تَعَيينِهِ *** يَجُوزُ فِيهِ الأَجْرُ مَعْ تَبْيينِهِ

‏(‏العمل المعلوم من‏)‏ أجل ‏(‏تعيينه‏)‏ أي تعيين حده بالعمل أو بالأجل وذكر صفته، فالأول كقوله‏:‏ أو أجرك على صبغ هذا الثوب أو دبغ هذا الجلد أو خياطة هذا الثوب، وبين له صفة الصبغ والدبغ والخياطة‏.‏ والثاني كقوله‏:‏ أوأجرك على بناء يوم أو خياطة شهر أو حراثة يومين ونحو ذلك، فالعمل الذي هو الدبغ والصبغ ونحوهما لا بد أن يكون معلوماً لهما، ولا بد أيضاً أن يكون محدوداً إما بالفراغ منه كخياطة ثوب وطحن أردب، وإما بضرب أجل كخياطة يوم أو صبغه ودبغه وطحنه فالمصنوعات أما أن تحد بالفراغ وبالأجل وغيرها كالرعاية والخدمة المعروفة ونحوهما يحد بضرب الأجل لا غير، فإن جمع بين الأجل والعمل كقوله‏:‏ خط هذا الثوب في هذا اليوم بدرهم أو أكتري منك دابتك لتركبها إلى محل كذا في هذا اليوم أو أو أجرك لتوصل الكتاب لمحل كذا في هذا اليوم أو الشهر بدرهم، فهل تفسد مطلقاً أو إنما تفسد إن كان الأجل مساوياً للعمل أو أنقص منه لا إن كان الأجل أكثر من العمل فلا تفسد فيه‏؟‏ خلاف ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وهل تفسد إن جمعهما وتساويا أو مطلقاً‏؟‏ خلاف‏.‏ ومن ذلك الاستئجار على بيع ثوب مثلاً، لكن لما لم يكن البيع في مقدور الأجير كان جعالة أن حده بالعمل وهو تمام العمل وإجارة إن حده بالزمن ويستحق أجره بمضي الزمن حينئذ وإن لم يبع ‏(‏يجوز فيه‏)‏ أي في ذلك العمل المعلوم ‏(‏الأجر‏)‏ أي تعويض الأجر الذي هو ثمن للعمل أي‏:‏ يجوز معاوضته بالأجر الذي هو ثمن له وعليه، فلا حاجة لدعوى الاستخدام ‏(‏مع تبيينه‏)‏ أي الأجر أي تبيين جنسه وقدره وصفته إن كان غائباً عن المجلس، وإلاَّ فلا حاجة لذكر صفته ولا جنسه وقدره، وتقدم أن الإجارة كالبيع يشترط فيها ما يشترط فيه، ومفهومه أنه إذا لم يبين قدر الأجر لم يجز، وهو كذلك على المشهور‏.‏ وروى ابن القاسم أنه لا بأس باستعمال الخياط المخالط الذي لا يكاد يخالف مستعمله دون تسمية أجر، فإذا فرغ أرضاه بشيء يعطيه إياه، ومن هذا أعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه، وعن ابن سراج أنه أجاز إعطاء السفينة بالجزء مما يحصل عليها ومثله الجباح بالجزء من عسله والزرع ممن يحرسه بجزء منه، ومذهب السلف جواز الإجارة بجزء منه قياساً على القراض انظر ‏(‏ ق‏)‏ أوائل الإجارة، وعلى ذلك تخرج أجرة الدلال بربع عشر الثمن مثلاً، ونص على جوازها بذلك صاحب المعيار في نوازل الشركة ومنه إعطاء البقرة لمن يرعاها، بنصف زبدها كما في نوازل الفاسي، وقد أجاز في المدونة كراء البقرة للحرث واشتراط لبنها مع جهل قدره، وانظر ما يؤيده في أول المزارعة أيضاً‏.‏

وَلْلأَجِيرِ أُجْرَةٌ مُكمَّلَهْ *** إن تَمَّ أَوْ بِقَدْرِ ما قد عَمِلَهْ

‏(‏وللأجير أجرة مكملة إن تم‏)‏ عمله كان صانعاً أو راعياً أو غيرهما ‏(‏أو‏)‏ له من الأجرة إن عاقه عائق عن الإتمام كمرض ونحوه ‏(‏بقدر ما قد عمله‏)‏ أي بقدر عمله فما مصدرية، وهذا إن لم يزل العائق حتى تمت المدة في الرعاية ونحوها، أو تراضيا على عدم الإتمام، وإلاَّ أجبر على الإتمام من أباه ويؤخذ من الآبي كفيل ويسجن له ويضرب إن تمادى على الامتناع، لأن عقد الإجارة لازم لكل منهما‏.‏ فإن تروغ الراعي أو معلم الصبيان مثلاً وخرجا قبل انقضاء المدة من غير عذر ولا عائق، ففي ابن عرفة‏:‏ سمع عيسى بن القاسم‏:‏ من واجر أجيراً مدة معينة شهراً أو يوماً لعمل خياطة أو بناء أو غيره فراغ عنه حتى انقضى الأجل انفسخت الإجارة فيما بطل، وإن عمل شيئاً فبحسابه اه‏.‏ ابن رشد‏:‏ هذا صحيح لا خلاف فيه اه‏.‏ ابن عرفة‏:‏ وبه أفتيت في الراعي وأجراء الحرث لأشهر معينة يروغ الأجير في بعضها فيأتي بعد المدة أن له بحساب ما عمل اه‏.‏

قلت‏:‏ وما أفتى به وحكى عليه ابن رشد الاتفاق هو الذي شهره في المازونية‏.‏ وقال في الطرر‏:‏ إن به القضاء والعمل ومقابله أنه لا شيء له لأنه ترك ما كان يجب له بترك تمام ما عومل عليه قاله أبو ميمونة الدراس فقيه فاس وغيره وصدر به في الطرر قال‏:‏ والأصل في هذا أن من أراد منهما قطع المعاملة فقد رضي بترك حقه إذا لم يتم شرطه، وهذا وجه القياس اه‏.‏ ونحوه في ابن سلمون وغيره، وعليه فهذا الأجير بتروغه وهروبه منع المستأجر من استيفاء منافعه التي باعها فهو ظالم متلف عمله على الذي استحقه فيجب عليه غرم قيمته لأنه بتروغه وهروبه غاصب لمنافع نفسه وغاصب المنافع يضمنها سواء استعمل أو عطل كما في ‏(‏خ‏)‏ وغيره‏.‏ وإذا كان غاصباً للمنافع التي باعها فيجب عليه ضمان قيمتها بمنزلة من باع سلعة فأتلفها، وقد قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وإتلاف المشتري قبض والبائع والأجنبي يوجب الغرم، وقد تقدم قريباً أنه يجري في الإجارة ما جرى في البيع، وإذا تقرر هذا فما في السماع‏.‏ وحكى عليه ابن رشد الاتفاق وشهره في المازونية مبني على أن الأجير لما كان معيناً تستوفى منه المنافع انفسخت الإجارة بتروغه لأنه بمنزلة تلفه، وهذا إنما يتم لو كان التلف بغير اختياره، وأما حيث كان باختياره فالواجب هو تضمينه قيمة المنافع التي تلفها فيحاسبه المستأجر له بقيمتها فإذا استأجر سنة مثلاً باثني عشر درهماً ورعى أو خدم ثلاثة أشهر منها وتروغ في الباقي، فإذا كانت قيمة هذا الذي تروغ فيه ستة دراهم قاصه بثلاثة منها في الثلاثة الواجبة له أي‏:‏ وغرم الراعي له ثلاثة، وإذا رعى تسعة وتروغ في ثلاثة وقيمتها ثلاثة أو ستة لشدة بردها أو حرها في السنة، فإن المستأجر يغرم له في الأولى تسعة وفي الثانية يغرم له الراعي ثلاثة، وهكذا هذا هو الحق وعليه فقولهم لا شيء له ليس على إطلاقه، بل إنما ذلك في بعض الصور كما ترى، وإنما تركوا التفصيل المذكور اتكالاً على وضوح المعنى، وعلى هذا فلأرباب الغنم وآباء الصبيان أن يضمناه قيمة المنافع الباقية ويؤاجرا من يرعى أو يعلم الصبي عليهما بقية الأمد، فإن قدرا عليه يوماً ما أخذا منه ذلك إن زاد على ما وجب له فيما رعى، وإن نقص عنها كان له الباقي‏.‏ هذا هو الذي تقتضيه الأصول، وقديماً كنت أفتي بمثل هذا، ويؤيده ما وقفت عليه لبعضهم ناسباً له لنوازل ابن سحنون بعد أن قرر الخلاف هل له شيء أم لا‏؟‏ قال، قال محمد، وأنا أقول‏:‏ إن وقعت الإجارة بينهما فاسدة فله أجر مثله فيما رعى، وإن كانت صحيحة استؤجر على رعايته سنة معينة وليس له شيء إلا بتمام عمل السنة يعني ليس له إلا ما فضل عن تمام السنة إن فضل له شيء كما مر‏.‏ نعم إذا لم يضمناه قيمة عمل الذي أتلفه ولم يؤاجرا عليه من يكمل له عمله، وجاء بعد انقضاء المدة يطلب ما وجب له، فإن له بحسابه، وعليه فيقيد النظم بما إذا عاقه العائق حتى انقضت المدة أو تراضيا على الفسخ أو لم يعقه شيء ولا تراضيا ولم يضمناه ولا واجرا عليه، فحينئذ يكون له بحساب ما عمل، وقد كثر السؤال عن هذه المسألة ويفتي فيها من لا تأمل معه بما في النظم من أن له بقدر ما عمل مطلقاً، وذلك غير سديد‏.‏ وتعليلهم بأن له ترك ما كان يجب له في ماضي المدة بترك تمام ما عومل عليه في بقيتها كالصريح في أن ما استحقه لماضي المدة يؤاجر عليه به في بقيتها، والغالب أن ما استحقه في الماضي لا يفي بما أتلفه من عمله إن خرج بعد رعايته من السنة نحو الشهرين والثلاثة، فإن وفى به وزاد كانت له الزيادة لأنه قد يخرج ويبقى لتمام السنة نحو الشهر أو الشهرين، وإن نقص كان عليه النقصان فهم إنما أطلقوا اتكالاً على وضوح المعنى، ولهذا قال ‏(‏ت‏)‏‏:‏ ينبغي اعتماد قول من قال لا شيء له، وحقه أن يقول يجب اعتماده إذ ما في السماع ضعيف المدرك كما ترى والله أعلم‏.‏ وهذا كله في الأجير البالغ الرشيد، وأما غيره فله بحساب ما عمل حيث تروغ وأتى بعد انقضاء المدة لأن غير البالغ وغير الرشيد لا يضمنان ما أتلفاه من منافعهما لأنهما مأمونان عليهما‏.‏ وقد قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وضمن ما أفسده إن لم يؤمن عليه فإن لم يتروغ وكان حاضراً وهو رشيد فإنه يضرب ويسجن ويؤخذ منه كفيل بذلك حتى يفعل كما مر، فإن تروغ وجاء قبل انقضاء المدة أو صح من مرضه أو زال عذره قبل انقضائها أيضاً، فإنه يجبر على إتمامها ويسقط من أجرته بقدر ما عطل، ولا يجوز إن كان نقده الأجرة أن يتفقا على قضاء مدة الهروب أو المرض بعد انقضاء مدة الإجارة ويأخذ جميع الأجرة لأنه فسخ ما في الذمة في مؤخر إذ قد وجب للمستأجر ما يقابل مدة الهروب من الأجرة فيفسخها في شيء لا يتعجله الآن، فإن كان لم ينقده جاز قضاء مدة الهروب بعد انقضاء مدة الإجارة لانتفاء العلة، وهذا كله مع التعيين، وأما مع عدمه كقوله‏:‏ اعمله بنفسك أو بغيرك فهو من الإجارة المضمونة ولا تنفسخ بتروغه أو موته ويستأجر من تركته من يكمله، وإن لم يكن وفاء في التركة خص المستعمل غرماءه‏.‏

تنبيه‏:‏

إذا واجره على العمل بنفسه لا بغيره فقال في المتيطية‏:‏ وليس للراعي أن يسترعي غيره إلا بإذن ربها في أحد قولي ابن القاسم اه‏.‏ ابن رحال‏:‏ والراجح الضمان إن استرعى من هو مثله بغير إذن ربها، وأحرى إن استرعى من هو دونه‏.‏ ابن ناجي‏:‏ وهذا إذا لم يجر عرف البلد بأن الراعي يأتي بمن هو مثله لضرورة، وإلاَّ فلا ضمان اتفاقاً، وكذلك إن كان العرف إثباته بدونه لأن العرف كالنص‏.‏ وفي البرزلي‏:‏ إن الحارس يحرس الطعام فذهب واستخلف من لا يقوى على الحراسة قال‏:‏ هو ضامن إلا أن يكون المستخلف مطيقاً على الحرس فلا ضمان البرزلي‏:‏ والصواب الضمان إلا أن يكون استخلف لضرورة اه‏.‏ وتقدم في آخر كراء الرواحل ما إذا ذهب له بعض الغنم فذهب يفتش فوجد الأخرى قد ضاعت فانظره هناك‏.‏

فرع‏:‏ إذا واجر بعض الجماعة إماماً للصلاة أو الأذان فإن ذلك يلزم من غاب عن العقد كما أقامه ابن ناجي من المدونة، وبه أفتى ابن الحاج حيث جرى عرف القرية بذلك، وبه أفتى ابن هلال والقباب وسيدي يحيى السراج قائلاً‏:‏ إن الناس يجب عليهم إقامة الجماعة والجمعة ويوظف عليهم أجرة الإمام على قدر رؤوسهم، وليس لأحد أن يمتنع، وقد نص على ذلك غير واحد من الشيوخ كالقاضي عياض وابنه وابن الحاج وغيرهم اه‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا عمل الناس في البادية فيجب اعتماده ولا يلتفت إلى ما سواه، وانظر شرحنا للشامل أوائل الإجارة وعند قوله‏:‏ فإن كانت أجرة الإمام من الأحباس الخ‏.‏ ففيه فوائد نفيسة مناسبة للمقام، وانظر فيه أجرة الكرائين والخط وحل المعقودين ونحو ذلك‏.‏

فرع‏:‏ قال في المتيطية‏:‏ ومن كانت له غنم فباع نصفها على أن يرعى المبتاع نصفها، والثاني مدة معلومة جاز ذلك وتكتب فيه‏:‏ باع فلان من فلان نصف مائة شاة ضئناً على السواء بكذا دينار أو قبضها منه أو أخره بها إلى وقت كذا، وعلى أن يرعى له المبتاع النصف الباقي على ملكه منها طول هذه المدة المذكورة، وقبض المبتاع جميع الغنم المذكورة بعد أن قلبها ورضيها وصارت تحت رعايته له نصفها بهذا الابتياع، والنصف الثاني باق على ملك البائع حتى يقتسماها إذا دعي أحدهما إلى ذلك، وعلى البائع خلف ما هلك أو باع من نصيبه مدة الاستئجار المذكور، ولهما سنة المسلمين في بيعهم واستئجارهم شهد عليهما الخ اه‏.‏ وفي المغارسة من العلمي أن الشيخ العبدوسي سئل عن شركة تقع من أهل البادية يبيع الرجل من الرجل نصف غنمه ونحوها بثمن معلوم مؤجل، فمنهم من يضرب للثمن أجلاً، ومنهم من لا يضربه، فإذا وقع النزاع بينهم يقول المشتري للبائع‏:‏ أعطني أجرة الربط والحل، فهل البيع فاسد أم لا‏؟‏ وهل يلزم البائع في نصفه أجر الحل والربط، وإذا تطوع المبتاع بذلك فهل لامرأته قيام أم لا‏:‏ فأجاب‏:‏ بأنهما إن ضربا للثمن أجلاً فلا شك في الجواز، وأما إن جعلاه لوقت القسمة أو كانت العادة جارية بذلك، أو كان منهما إضمار على ذلك فالبيع فاسد، وعلى البائع أجرة الحل والربط حيث كان المبتاع ممن يأخذ ذلك عادة أو جهل حاله بعد أن يحلف أنه لم يقصد بذلك التطوع إلا أن يكون أشهد على ذلك أو لا‏.‏ فلا يمين عليه، وإن كان ممن لا يأخذ ذلك عادة لنسبه وحسبه فلا أجرة له، وأما إن كانت المرأة في المتولية لذلك فإنما ترجع بذلك على زوجها إن كانت ممن تأخذ ذلك لأن زوجها لما تطوع به سقط عن البائع ووجب على زوجها لتطوعه فترجع على من وجب عليه لا على من سقط عنه، واشتراط الحل والربط على المشتري في أصل العقد إلى غير أمد معلوم لا يجوز، وإنما يجوز إلى أمد معلوم بشروط وبالله التوفيق‏.‏ وكتب عبد الله العبدوسي اه‏.‏ ببعض اختصار وتأمل قوله‏:‏ لأن زوجها لما تطوع الخ‏.‏ فإنه كثير الوقوع، وتقدم آخر بيع الفضولي جملة من ذلك، وقوله‏:‏ إن كانت ممن تأخذ ذلك إشارة منه إلى القاعدة الآتية في البيت بعده‏.‏

وَالقَوْلُ للعامِلِ حَيْثُ يَخْتَلِفْ *** في شأْنِهَا بَعْدَ الفَرَاغِ إنْ حَلَفْ

‏(‏والقول للعامل‏)‏ أي الأجير ‏(‏حيث يختلف‏)‏ هو ومن واجره ‏(‏في شأنها‏)‏ أي الإجارة أي في شأن عقدها ‏(‏بعد الفراغ‏)‏ من العمل فقال الأجير‏:‏ ادفع لي أجرة الصبغ أو الخياطة مثلاً‏.‏ وقال رب الثوب‏:‏ لم أواجرك على ذلك، وإنما كان عندك وديعة أو قال صبغته أو خطته لي مجاناً، فإن القول للأجير إنه صبغه أو خاطه بأجر ويصدق في قدره ‏(‏إن‏)‏ أشبه و‏(‏حلف‏)‏ أنه لقد واجره بما ذكر ‏(‏خ‏)‏‏:‏ والقول للأجير إنه وصل كتاباً أو أنه اصطنع، وقال ربه وديعة الخ‏.‏ وإنما كان القول للأجير مع أن القول لمنكر العقد إجماعاً كما تقدم في اختلاف المتبايعين لأن الغالب فيما يدفع للصانع هو الاصطناع والإيداع نادر لا حكم له كما قاله اللخمي، وقوله في شأنها صادق بما إذا قال ربه وديعة أو مجاناً كما مر، وبما إذا سرق مني، وهذا الثاني يجب إخراجه من النظم لأن الحكم فيه عدم قبول قول الأجير كما قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وإن ادعاه وقال‏:‏ سرق مني وأراد أخذه دفع قيمة الصبغ بيمين إن زادت دعوى الصابغ عليها الخ‏.‏ والفرق أن رب المصنوع في دعوى الوديعة معترف بأنه أذن في وضع يد الصانع على المصنوع بخلاف السرقة، ومفهوم قوله‏:‏ حيث يختلف في شأنها أنهما إذا اتفقا على عدم عقدها أنه لا شيء على رب المصنوع وهو كذلك حيث كان رب المصنوع لا حاجة له في تلك الصنعة، أو كانت الصنعة مما يليها بنفسه أو عبيده، وإلا لزمه أجرة المثل‏.‏ قال في الشامل‏:‏ وكل من أوصل لك نفعاً بعمل أو مال وإن بغير قصد نفعك كان حرث أرضك ظاناً أنها له أو لم تأمره به مما لا بد لك منه كحرثه أرضك أو سقيه إياها أو حصد زرعك أو طحن حبك أو حفر بئرك أو بناء دارك أو انفق على زوجتك أو ولدك أو عبدك لزمك أجرة العمل، ومثل المال الذي أنفقه على الزوجة ونحوها لأنه قد قام عنك بواجب، فإن فعل ذلك بقصد أن يأخذه لنفسه فهو غاصب لا شيء له، والقول قوله إنه فعل ذلك بقصد الرجوع بالأجرة، وبمثل المال المنفق فإن كان عملاً لا تحتاج له كحفر بئر في أرضك لا حاجة لك به، أو انفق على من لا تلزمك نفقته، أو كان العمل مما تليه بنفسك أو عبيدك أو دوابك فلا شيء عليك اه‏.‏ باختصار‏.‏ وتقديم وتأخير وزيادة للإيضاح‏.‏ وهذه الكلية ذكرها ابن حارث في أصول الفتيا في باب الضمان، ونقلها ابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة في باب الإجارة وسلموها، ولم يعترضوا منها شيئاً‏.‏ انظر نصهم في شرح الشامل‏.‏ ثم أشار إلى مفهوم قوله بعد الفراغ فقال‏:‏

وإنْ جَرَى النِّزَاعُ قبلَ العَمَلِ *** تَحَالَفَا والرَّدُّ بَيِّنٌ جَلِي

‏(‏وإن جرى‏)‏ أي وقع ‏(‏النزاع‏)‏ بين الأجير ورب المتاع ‏(‏قبل‏)‏ الشروع في ‏(‏العمل‏)‏ أو بعد الشروع فيه بشيء يسير ‏(‏تحالفا والرد‏)‏ لعقد الإجارة أي فسخه ‏(‏بين جلي‏)‏ وظاهره مطلقاً كان نزاعهما في عقدها وعدم عقدها أو في قدر الأجرة أو في نوعها أو جنسها أو في انتهاء المسافة أو في ابتدائها، ونحو ذلك‏.‏ وهو كذلك ولا يراعى شبههما ولا شبه أحدهما لأن القاعدة أنه لا ينظر لشبه قبل العمل ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وإن قال بمائة لبرقة، وقال بل لإفريقية حلفا وفسخ إن عدم السير أو قل وإن نقد الخ‏.‏ ثم أشار إلى مفهوم قوله في شأنها أي عقدها، وهو ما إذا اتفقا على العقد واختلفا في الصفة أو النوع أو القدر فقال‏:‏

وَإنْ يكن في صِفَةِ المَصْنُوعِ *** أَوْ نوعِهِ النِّزَاعُ ذَا وقُوعِ

‏(‏وإن يكن في صفة المصنوع‏)‏ كقوله‏:‏ أمرتني بصبغه أحمر، وقال الآخر‏:‏ بل أصفر مثلاً ‏(‏أو نوعه‏)‏ كقوله‏:‏ أمرتني بخياطة عربية وقال الآخر‏:‏ بل برومية والمجرور يتعلق بقوله‏:‏ ‏(‏النزاع‏)‏ وهو اسم يكن وقوله‏:‏ ‏(‏ ذا وقوع‏)‏ خبره‏.‏

فَالقولُ لِلصَّانِعِ من بَعْدِ الْحَلِفْ *** وَذَاكَ في مقدارِ أُجرةٍ عُرِفْ

‏(‏فالقول للصانع‏)‏ في الصورتين ‏(‏من بعد الحلف‏)‏ وهذا إذا أشبه أشبه الآخر أم لا، فإن انفرد الآخر بالشبه لكون غالب أمثاله لم يلبسوا إلا الأصفر أو المخيط برومية فقوله‏:‏ بيمينه فإن لم يشبها فأجرة المثل ما لم تزد على دعوى الصانع أو تنقص عن دعوى ربه فلا ينقص ولا يزاد‏.‏ ‏(‏وذاك‏)‏ مبتدأ والإشارة إلى كون القول للصانع مع حلفه وشبهه ‏(‏في‏)‏ نزاعهما في ‏(‏مقدار أجرة‏)‏ بأن قال بعشرة وقال الآخر بل بثمانية ‏(‏عرف‏)‏ خبر والمجرور يتعلق به، وظاهره أن القول له في قدرها حيث أشبه وحده كان المصنوع محوزاً بيده أم لا‏.‏ وهو كذلك فإن أشبه ربه وحده، فالقول له ولو محوزاً بيد الصانع، فإن أشبها معاً فالقول للحائز منهما، وإن لم يشبها معاً فأجرة المثل ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على ما فيه القول للصانع ما نصه‏:‏ أو خولف في الصفة أو في الأجرة إن أشبه وحاز لا أن لم يحز كبناء‏.‏

وإنْ يَكُنْ مِنه نُكُولٌ حَلَفَا *** ربُّ المَتاعِ وَلهُ مَا وَصَفَا

‏(‏وإن يكن منه‏)‏ أي الصانع ‏(‏نكول‏)‏ عن اليمين حيث القول له في هذه الفروع ‏(‏حلفا رب المتاع‏)‏ على دعواه ‏(‏وله ما وصفا‏)‏ من قدر الأجرة ومن الصبغ والخياطة ويؤمر الصانع بإعادة الصبغ والخياطة إن أمكنه ذلك من غير فساد، وإلاَّ ضمن قيمته أبيض من غير صبغ ولا خياطة‏.‏

وَالقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ المَتَاعِ في *** تَنَازُعٍ فِي الرَّدِّ مَعْ حَلْفٍ قُفِي

‏(‏والقول قول صاحب المتاع في تنازع‏)‏ بينه وبين الصانع ‏(‏في الرد‏)‏ للشيء المصنوع فقال الصانع‏:‏ رددته إليك بعد الصنعة‏.‏ وقال ربه‏:‏ بل هو باق عندك فالقول لربه ‏(‏ مع حلف‏)‏ منه ‏(‏قفي‏)‏ بالبناء للمفعول صفة لحلف، وظاهره أن القول لربه سواء قبضه ببينة أو بغير بينة استصنع بأجر أو بغيره وهو كذلك لأنه قبضه على الضمان فلا يبرأ منه كما قال مالك‏:‏ إلا ببينة بخلاف المودع عنده إذا قبض الوديعة بغير بينة فهو مصدق في الرد لأنه لم يقبضها على الضمان، وهذا كله في المصنوع الذي يغاب عليه كالثوب ونحوه، وأما ما لا يغاب عليه كغلام دفعه لمن يعلمه أو دابة لمن يعلمها حسن السير، فالقول للصانع في رده كقبول دعوى تلفه إلا أن يكون قبضه ببينة مقصودة للتوثق فلا تقبل دعواه الرد والتلف، والمقصودة للتوثق هي المقصودة بالإشهاد احترازاً مما إذا حضرت على وجه الإتفاق فشهدت بما وقع بمحضرها من غير أن يشهدها رب المتاع والصانع، فهذه البينة لم تقصد بالإشهاد، وإنما حضرت على وجه الاتفاق فهي كالعدم كما أوضحنا ذلك في شرحنا للشامل في باب الوديعة ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على ما لا يقبل فيه قول الصانع ما نصه‏:‏ ولا في رده فلربه وإن بلا بينة الخ‏.‏ وفهم من النظم أن دعوى التلف والغصب كدعوى الرد فلا يقبل قول الصانع فيهما أيضاً لأن من لم يقبل دعواه الرد لم يقبل دعواه التلف والغصب إلا ببينة عليهما من غير تفريط ويضمن قيمة ذلك يوم الدفع، وليس لربه أن يقول‏:‏ أنا أدفع الأجرة وآخذ قيمته معمولاً إلا أن يقر الصانع أنه تلف بعد العمل قاله في الموازية‏.‏ ومحل الضمان إن غاب على المصنوع ونصب نفسه لتلك الصنعة لسائر الناس فإن لم يغب على المصنوع بل صنعه ببيت ربه ولو بغير حضوره أو بحضوره، ولو بغير بينة، أو لم ينصب نفسه لسائر الناس، بل كان يصنع لشخص خاص أو لجماعة مخصوصين فلا ضمان عليه فيما ادعى تلفه ‏(‏خ‏)‏ عاطفاً على ما فيه الضمان أو صانع أي عليه الضمان في مصنوعه لا في غيره، ولو محتاج له عمل، وإن ببينة أو بلا أجر إن نصب نفسه وغاب عليه فبقيمته يوم دفعه، ولو شرط نفيه أو دعي لأخذه إلا أن تقوم بينة أي بتلفه فتسقط الأجرة الخ‏.‏

تنبيه‏:‏

ألحقوا السمسار بالصانع فلا تقبل منه دعوى الرد ولا التلف‏.‏ قال في العمل المطلق‏:‏

والحقوا السمسار بالصناع *** فضمنوه غائب المتاع

فرع‏:‏ ذكر اللخمي وابن عرفة في كتاب الوديعة‏:‏ من اكترى دابة فلما قدم قال‏:‏ أودعتها لأنها وقفت علي في الطريق فإنه يصدق، ولو أنكر ذلك المودع عنده ولا ضمان عليه لأن الشأن دفع الودائع بغير بينة اه‏.‏

والقَوْلُ لِلأَجِيرِ أَنْ كان سأل *** بالقُرْبِ مِنْ فَرَاغِهِ أَجْرَ العَمَلْ

‏(‏والقول للأجير‏)‏ في عدم قبضه الأجرة ‏(‏إن كان سأل‏)‏ أي جاء يسألها ويطلبها ‏(‏ بالقرب من فراغه‏)‏ كاليومين ونحوهما ‏(‏أجر العمل‏)‏ مفعول بقوله سأل، وهذا إذا كان قد دفع المصنوع لربه أو لم يحزه أصلاً كبناء وإلاَّ بأن كان المصنوع باقياً تحت يده، فالقول له في عدم القبض وإن طال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وله وللجمال بيمين في عدم قبض الأجرة وإن بلغا الغاية إلا لطول فلمكتريه بيمين، وكان حق الناظم أن يؤخر هذا البيت عن الأبيات بعده لارتباطها بما قبله، وظاهر قوله بالقرب من فراغه أنه لا فرق بين الصناع وكراء الرواحل والسفن والدور والأرضين وغير ذلك، وهو كذلك‏.‏ قال في المتيطية‏:‏ وإن كان الكراء مشاهرة أو مسانهة واختلفا في الدفع صدق المكتري مع يمينه فيما انقضى من الشهور في المشاهرة، ومن السنين في المسانهة إلا في الشهر الأخير والسنة الأخيرة، فيصدق المكري مع يمينه إن قام بحدثان ذلك‏.‏ قال بعض الموثقين‏:‏ والشهر بعد انقضاء المدة في ذلك قريب انتهى‏.‏ قال المكناسي في مجالسه‏:‏ العرف بفاس أن القول قول المكري للدار ونحوها في سالف المدة ما عدا شهرين من آخرها فإن القول فيها قول المكري انتهى‏.‏

قلت‏:‏ والعمل اليوم بفاس على ما للمكناسي بزيادة شهر فيكون القول للمكتري فيما عدا الثلاثة الأشهر الأخيرة، فإن القول فيها قول المكري مع يمينه في الدور والحوانيت والفنادق ونحو ذلك لا في الصناع والرواحل، فإن العمل فيها على ما في النظم والله أعلم‏.‏ ثم إذا قلن يضمن قيمة المصنوع في دعواه التلف والرد يوم الدفع كما مر، فإن اتفقا عليها فلا كلام، وإن اختلفا فيها تواصفاه، ثم قوِّم، فإن اختلفا فالقول للصانع لأنه غارم، وهذا إن أشبه وحلف كما قال‏:‏ بقي هنا بيت وهو‏:‏

بَعْدَ يَمِينِهِ لمِنْ يُنَاكِرُ *** وَبَعْدَ طُولٍ يَحْلِفُ المُستَأْجِرُ

وَالوَصْفُ مِنْ مُسْتَهْلِكٍ لمَا تَلفْ *** في يَدِهِ يُقْضىبِه بَعْدَ الحَلِفْ

‏(‏والوصف‏)‏ مبتدأ ‏(‏من مستهلك‏)‏ بكسر اللام يتعلق بمحذوف صفة أي الكائن من مستهلك، وسماه بذلك لهلاك الشيء تحت يده ونكره ليعم الصانع والمرتهن والغاصب وغيرهم كما سيقول‏:‏ وكل من ضمن شيئاً الخ‏.‏ ‏(‏لما تلف‏)‏ يتعلق بالوصف ‏(‏في يده‏)‏ أي المستهلك يتعلق بتلف ‏(‏يقضي به‏)‏ خبر أي يقضي بوصفه عند اختلافهما فيه دون وصف صاحبه ‏(‏بعد الحلف‏)‏ من المستهلك ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وإن اختلفا في قيمة تالف تواصفاه، ثم قوم، فإن اختلفا فالقول للمرتهن الخ‏.‏ ‏(‏ز‏)‏‏:‏ ولو ادعى شيئاً يسيراً لأنه غارم، وقال أشهب‏:‏ إلا أن يتبين كذبه لقلة ما ذكره، ونحوه قول المدونة‏:‏ من غصب أمة فادعى هلاكها واختلفا في صفاتها صدق الغاصب في الصفة مع يمينه إذا أتى بما يشبه فإن أتى بما لا يشبه صدق المغصوب منه في الصفة حينئذ مع يمينه انتهى‏.‏ وهو معنى قول الناظم‏:‏

وَشَرْطُهُ إتْيَانُهُ بِمشْبِهِ *** وَإنْ بِجَهْلٍ أَوْ نُكُولٍ يَنْتَهِي

‏(‏وشرطه‏)‏ أي شرط قبول وصفه مع الحلف‏.‏ ‏(‏ إتيانه بمشبه‏)‏ فإن أتى بما لا يشبه صدق الآخر إن أشبه وحلف، فإن نكل المستهلك أو قال لا أدري صفته صدق الآخر كما قال‏:‏ ‏(‏وإن بجهل أو نكول ينتهي‏)‏ المستهلك بكسر اللام‏.‏

فَالقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ في وَصْفِهِ *** مُسْتَهْلِكاً بِمُشْبِهٍ مَعْ حَلْفِهِ

‏(‏فالقول قول خصمه‏)‏ وهو رب المستهلك بفتح اللام ‏(‏في وصفه مستهلكاً‏)‏ بالفتح معمول بوصف ‏(‏بمشبه‏)‏ يتعلق بوصف ‏(‏مع حلفه‏)‏ متعلق بقوله خصمه أو حال منه، فإن لم يشبه رب المستهلك أيضاً فوسط من القيم بعد أيمانهما كما لابن ناجي، والظاهر أنه كذلك إذا تجاهلا أي ادعى كل جهل صفته، وهذا في غير المرهون، وأما هو فإنهما إذا تجاهلاه فالرهن بما فيه كما قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وإن تجاهلا فالرهن بما فيه، ولما بين أن القول للمستهلك بكسر اللام في وصف المستهلك بفتحها أشار إلى ما يضمنه بعد الوصف واليمين فقال‏:‏

وَكلُّ مَنْ ضَمِنَ شَيْئاً أتْلَفَهْ *** فَهْوَ مُطَالَبٌ بِهِ أَنْ يُخْلِفَهْ

‏(‏وكل من ضمن شيئاً أتلفه‏)‏ من مثلى أو مقوم ‏(‏فهو مطالب‏)‏ بفتح اللام ‏(‏به أن يخلفه‏)‏ سواء أتلفه عمداً أو خطأ‏.‏

وَفي ذَوَاتِ المِثْلِ مِثلٌ يَجِبُ *** وَقِيمَةٌ في غَيْرِهِ تَسْتَوْجِبُ

‏(‏وفي ذوات المثل مثل‏)‏ مبتدأ سوغه تقديم معمول الخبر عليه على حد قول ابن مالك‏:‏ بها كلام قد يؤم ‏(‏يجب‏)‏ خبره والمجرور يتعلق به، وكان حقه أن يفرعه بالفاء فيقول ففي ذوات المثل الخ‏.‏ ‏(‏وقيمة في غيره‏)‏ أي المثلى وهو المقوم ‏(‏تستوجب‏)‏ أي يوجبها الشرع، والمثلى كل ما يكال أو يوزن كالذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس والحنطة والشعير وسائر المأكولات، والمقوم ما لا يكال ولا يوزن كالثياب وسائر العروض والرقيق والحيوان‏.‏

تنبيه‏:‏

من استهلك طعاماً في الغلاء وطولب به في الرخاء فإنه يلزمه مثله على المشهور، وكذلك من استهلك فلوساً فانقطع التعامل بها فإنه يلزمه المثل، وإذا تعذر المثل فإنه يصبر حتى يوجد كما قال ‏(‏خ‏)‏ في الغصب‏:‏ والمثلى ولو بغلاء بمثله وصبر لوجوده ولبلده الخ‏.‏ وقولي‏:‏ وطولب به في الرخاء احترازاً مما إذا طولب به في الغلاء وكان موجوداً فماطله المستهلك أو الغاصب أو المقترض حتى رخص فإنه يضمن قيمته وقت الطلب كما تقدم عند قول الناظم صدر البيوع‏:‏ بأضرب الأثمان والآجال الخ‏.‏

تنبيه آخر‏:‏

إذا أتلف عجل بقرة أو ولد شاة فإنه يضمن قيمة العجل وقت التلف ويضمن أيضاً ما نقص من حليب البقرة أو الشاة على أنها تحلب بنتاجها، وهذا إذا لم يكن اللبن هو المقصود منها وإلاَّ خير المالك بين أن يضمنه قيمتها أو يأخذها وما نقصها كما أشار له ‏(‏خ‏)‏ في فصل التعدي بقوله‏:‏ فإن أفات المقصود كقطع ذنب دابة ذي هيئة أو لبن شاة هو المقصود لا إن لم يفته كلبن بقرة الخ‏.‏ وانظر أيضاً عند قوله في الدماء كجنين البهيمة، وانظر أيضاً من أتلف ثمرة قبل بدو صلاحها عند قوله في الشهادات كالإتلاف بلا تأخير للحصول‏.‏ وانظر شرح الشامل لهذا النص الذي في الشهادات من رعى كرماً أو أشجاراً، وانظر من أتلف زرعاً قبل بدو صلاحه عند قوله في الشرب‏:‏ وما أتلفته البهائم ليلاً الخ‏.‏ أي فإنه يغرم قيمته على الرجاء والخوف، قال ابن رشد‏:‏ ولا خلاف في تقويمه إذا أيس من عوده لهيئته، وأما إن رعى صغيراً أو رجى أن يعود لهيئته فاختلف هل يستأني به أم لا‏؟‏ فقال مطرف‏:‏ إنه لا يستأني به، وقال سحنون‏:‏ يستأني به، وإذا حكم بالقيمة فيه على قول مطرف ثم عاد لهيئته مضت القيمة لصاحب الزرع وقيل ترد كالبصل يعود، وإذا لم يحكم بالقيمة حتى عاد لهيئته فإن القيمة تسقط‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ لا تسقط، قال الشيخ بناني‏:‏ وربما يستروح من كلام ضيح أن قول مطرف هو الراجح في الجميع انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ مضت القيمة إلى قوله، وقيل ترد الخ‏.‏ صريح أن الزرع والقيمة يكونان لرب الزرع لأنه لم يأخذ القيمة إلا على الرجاء والخوف وهو الظاهر خلاف ما في حاشية الرهوني عن المقصد المحمود من أن الزرع يكون لدافع القيمة، والله أعلم‏.‏

فصل في الجعل

والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 72‏)‏ فقد جعل له جعلاً على الإتيان في الصواع ولم يضرب له أجلاً فدل ذلك على أنه إن طلب ولم يأت به فلا شيء له والأصل فيه حديث الرقية، وهو أن نفراً من الصحابة سافروا حتى نزلوا على حي من العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم فلدغ سيدهم فأتى الملدوغ لبعض أولئك الصحابة يرقيه فرقاه على أن جعل له قطيعاً من الغنم فبرىء ووفى له بجعله، فذكروا ذلك للنبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله‏)‏ الخ‏.‏ والقصة في البخاري عن أبي سعيد الخدري ونقلها ‏(‏ح‏)‏ وغيره‏.‏ وعرفه ابن عرفة بتعريفين أوجزهما، وعليه نقتصر عقد معاوضه على عمل آدمي يجب عوضه بتمامه لا بعضه ببعضه، فخرج بقوله عمل آدمي كراء الرواحل والسفن والنكاح وكراء الأرضين، وبقوله يجب عوضه بتمامه القراض والمساقاة والشركة في الحرث لجواز عدم الربح والغلة والزرع، وبقوله لا بعضه ببعضه الإجارة لوجوب بعض العوض إذا ترك الأجير العمل قبل تمامه‏.‏

الجُعْلُ عَقْدٌ جائِزٌ لا يَلْزَمُ *** لكن بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ يُحْكَمُ

‏(‏الجعل عقد جائز لا يلزم‏)‏ فكل منهما أن يفسخه قبل الشروع في العمل على المشهور ‏(‏لكن به‏)‏ أي باللزوم ‏(‏بعد الشروع يحكم‏)‏ على الجاعل فقط، وهو باذل العوض فالمجرور والظرف متعلقان بيحكم، وأما المجعول فله الترك ولو بعد الشروع أو العمل الكثير، ولا يلزمه الإتمام بحال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولزمت الجاعل بالشروع‏.‏ واعلم أن الجعالة تفارق الإجارة من وجوه، فمنها أن ضرب الأجل يفسدها كما أشار له الناظم فيما يأتي بقوله‏:‏ ولا يحد بزمان لاحق الخ‏.‏ أي‏:‏ لا يؤجل بأجل إلا أن يشترط المجعول الترك متى شاء بخلاف الإجارة فلا تصح بدون أجل، ومنها أنها عقد غير لازم كما قال الناظم ههنا فهو كالقراض والتوكيل والتحكيم بخلاف الإجارة، فإنها تلزم بالعقد، وقد نظم ابن غازي ما يلزم بالعقد وما لا يلزم به وما فيه خلاف هل يلزم به أم لا فقال‏:‏

أربعة بالقول عقدها فرا *** بيع نكاح وسقاء وكرا

لا الجعل والقراض والتوكيل *** والحكم بالفعل بها كفيل

لكن في الغراس والمزارعه *** والشركات بينهم منازعه

وفرا آخر الشطر الأول بالفاء بمعنى قطع، ومنه فرى الأوداج أي قطعها، والوجه الثالث الذي يخالف فيه الجعل الإجارة أنه لا شيء له إلا بتمام العمل كما قال‏:‏

وَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ مِمَّا يُجْعَلُ *** شَيْئاً سِوَى إذَا يَتِمُّ العَمَلُ

‏(‏وليس يستحق‏)‏ المجعول ‏(‏مما‏)‏ أي الجعل الذي ‏(‏يجعل‏)‏ له ‏(‏شيئاً‏)‏ مفعول يستحق ‏(‏سوى إذا يتم العمل‏)‏ فإن لم يتمه فلا شيء له بخلاف الإجارة فإن له فيها بحساب ما عمل ‏(‏خ‏)‏‏:‏ صحة الجعل بالتزام أهل الإجارة جعلاً يستحقه السامع بالتمام ككراء السفن إلا أن يستأجر على التمام فنسبة الثاني الخ‏.‏ أي محل كونه لا شيء له إذا لم يتمه الجاعل بنفسه أو عبيده أو يستأجر عليه وإلاَّ فله فبنسبة الثاني فإذا جاعله على الإتيان بخشبة إلى موضع كذا بخمسة دراهم مثلاً فحملها نصف الطريق وتركها فلا شيء له، فإذا جاعل صاحبها شخصاً آخر على بقية الطريق بعشرة فإنما يكون للأول عشرة لأنها التي تنوب فعله من عمل الثاني لأن الثاني لما استؤجر نصف الطريق بعشرة علم أن قيمة الإتيان بها في الطريق كلها يوم استؤجر عشرون، ولو حملها الأول ربع الطريق وتركها وحملها الثاني بقية الطريق بعشرة أيضاً كان للأول ثلاثة وثلث لأن الثاني حمل كل ربع من الثلاثة الأرباع بثلاثة وثلث، وقس على ذلك لو حملها الأول ثلاثة أرباع الطريق ونحو ذلك والحفر في البئر مثل الخشبة وإذا حملها بقية الطريق بنفسه أو عبده يقال ما قيمة ذلك أن لو جوعل أو استؤجر عليه‏.‏ ابن رشد‏:‏ وشبه هذا الدلال يجعل له الجعل على شيء فيسوقه ثم يبيعه ربه بغير حضرته، ولو باعه دلال آخر بجعل كان الجعل بين الدلالين بقدر عنائهما، لأن الدلال الثاني هو المنتفع بتسويق الأول اه‏.‏ وتأمل هذا مع ما يفعله الناس اليوم من كون الدلال الثاني يستبد بجميع الجعل وذلك ظلم للأول كما ترى، وهذا ظاهر إذا كان الدلال الثاني دلل الثوب مثلاً في اليوم الذي دلله فيه الأول، وفي ذلك السوق بعينه وإلاَّ فلا شيء للأول بخلاف تدليل الأصول الجمعة والشهر ونحوه، فإنه يشارك الثاني ولو دللها في غير يومها وسوقها ثم ما مر من أن للأول بنسبة الثاني هو المشهور، واعترضه التونسي وابن يونس قالا‏:‏ لأن الأول إذا رضي أن يحملها جميع الطريق بخمسة، فكان يجب إذا تركها في نصف الطريق أن يعطى نصف الخمسة، وأجاب ابن عبد السلام بأن عقد الجعل لما كان منحلاً من جهة العامل بعد العمل فلما ترك بعد حمله نصف المسافة صار تركه إبطالاً للعقد من أصله وصار الثاني كاشفاً لما يستحقه الأول اه‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ أركان الجعل ثلاثة‏:‏ عاقد وشرطه أهلية البيع وعمل وهو كعمل الإجارة من كونه منفعة تتقوم قدر على تسليمها بلا استيفاء عين ولا حظر وتعين الخ‏.‏ إلا أنه لا يشترط العلم به هنا إذ مسافة الآبق والضالة مجهولة انظر شرحنا للشامل‏.‏ وجعل وشرطه أن يكون معلوماً منتفعاً به ظاهراً مقدوراً على تسليمه إلى غير ذلك مما يشترط في ثمن المبيع، وتقدم عن ابن سراج في فصل الإجارة أنه أجاز كراء السفينة بالجزء من ربحها إذا دعت إلى ضرورة قال‏:‏ لأنه قد علم من مذهب مالك رحمه الله مراعاة المصلحة إذا كانت كلية حاجية، وأيضاً فإن ابن حنبل وجماعة من علماء السلف أجازوا الإجارة بالجزء في جميع الإجارات قياساً على القراض والمساقاة، وقد اختلف الأصوليون في جواز الانتقال من مذهب إلى آخر في بعض المسائل، والصحيح من جهة النظر جوازه قال‏:‏ ومما يدل للجواز أيضاً ما ذكره الشعبي عن أصبغ من أن جميع ما يضطر إليه الناس ولا يجدون منه بدًّا مثل حارث الزرع يستأجر بجزء منه، ولا يجد من يحرس له إلا بذلك الوجه فأرجو أن لا يكون به بأس اه باختصار‏.‏ ونقل ولد الناظم كلامه في فصل الإجارة وقال عقبه‏:‏ إن عمل بمقتضى هذه الفتوى فتحت مسائل كثيرة ظاهرها المنع على أصل المذهب اه‏.‏ وبالجملة فهذه الفتوى اعتمدها غير واحد من المتأخرين ومحلها عندهم وعند ابن سراج إذا دعت الضرورة إلى ذلك ولم يجد في البلد من يعمل بالأجر المعلوم كما ترى، وتقدم في فصل الإجارة أن مجاعلة الدلال من هذا القبيل وإلاَّ فهي ممنوعة‏.‏ انظر شرحنا للشامل عند قوله‏:‏ والعمل في الجعل من شرطه عدم تأجيله الخ‏.‏ ومما يجوز فيه الجعل مع جهل العوض أيضاً قوله‏:‏ اقتض ديني وما اقتضيت فلك نصفه، أو القط زيتوني وما لقطت فلك نصفه، وجذ من نخلي ما شئت، أو احصد من زرعي ما شئت ولك نصف ما تحصد أو تجذ، فإن ذلك كله جعالة وله الترك متى شاء كما اقتصر عليه في الشامل وغيره، فإن قال‏:‏ احصد زرعي هذا سواء قال كله أم لا‏.‏ كما في الرجراجي أو قال‏:‏ جذ نخلي هذا أو القط زيتوني هذا ولك نصفه، فهو إجارة لازمة لأنه معلوم بالحزر وليس له الترك كما نص عليه في المدونة‏.‏

الثاني‏:‏ كل مسألة يصح الجعل فيها مع اعتبار شروطه من عدم ضرب الأجل ونحوه تصح فيها الإجارة مع اعتبار شروطها أيضاً من ضرب الأجل وغيره، ولا عكس‏.‏ ألا ترى أن حفر الآبار يصح بجعالة كما قال‏:‏

كالحَفْرِ لِلْبِئْرِ وَرَدِّ الآبِقِ *** وَلاَ يُحَدُّ بِزَمَانٍ لاحِقِ

‏(‏كالحفر للبئر‏)‏ بشرط أن تكون في غير ملك الجاعل، وأن يعرفا شدة الأرض ورخاوتها على ما لصاحب المعونة لا على ما لابن رشد وابن الحاجب فإنهما لا يشترطان معرفة شدتها ورخاوتها وهو أظهر والآلات والفؤوس على الحافر إلا أن يشترطها على الجاعل ويصح إجارة أيضاً كانت في أرض يملكها الجاعل أم لا‏.‏ والآلة والفؤوس على المستأجر بالكسر، وكذا بيع الثياب يصح إجارة وجعالة وكذا مشارطة الطبيب‏.‏ ‏(‏ورد الآبق‏)‏ والشارد يصح فيهما الأمران أيضاً وتنفرد الإجارة بخياطة الثوب وحفر البئر في ملك الجاعل ونحوهما مما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك فإنه لا يصح جعالة وإنما يصح إجارة فالإجارة أعم من الجعل مطلقاً كما قال ‏(‏خ‏)‏‏:‏ في كل ما جاز فيه الإجارة بلا عكس الخ‏.‏ وهذا واضح على المشهور من أن ما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك لا تصح فيه الجعالة، وأما على مقابله وهو مذهب ابن القاسم من صحة الجعل فيما تبقى فيه منفعة للجاعل فيتساوى الجعل والإجارة ولا ينفرد أحدهما عن الآخر بشيء‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ قال في المتيطية‏:‏ وكره مالك الجعل على الخصومة على أنه لا يأخذ شيئاً إلا بإدراك الحق لأنه لا يعرف لفراغها غاية فإن عمل هذا فله أجر مثله اه‏.‏ وقال قبل ذلك‏:‏ ويجوز في أحد قولي مالك أن يجاعل الطبيب على البرء والخصم على إدراك الحق وهو المعمول به عند الموثقين اه‏.‏ ونحوه في المجالس المكناسية، وما تقدم في الطبيب محله إذا كان الدواء من عند العليل وإلا لم يجز لأنه غرر إن برىء أخذ حقه وإلاَّ ذهب دواؤه باطلاً‏.‏ قال ابن ناجي‏:‏ وبه حكمت ونظمه في العمل المطلق‏.‏

الثاني‏:‏ من سرق له شيء أو ضاع له مثلاً فالتزم ربه الجعل المسمى بالبشارة اليوم، فإنه يجوز ذلك الالتزام ويقضي للمبشر بأخذه بشرطين أن يلتزم له ذلك قبل وجود المسروق ونحوه، وأن يكون مكانه مجهولاً، فمن وجد الآبق أو المسروق أو علم مكانهما ثم جاء إلى ربه، فطلب أن يلتزم له بالبشارة على رده أو على الدلالة على مكانه فلا جعل له وإن قبضه رده قال في العمليات‏:‏

وخذ بشارة بجعل جعلا *** قبل الوجود والمكان جهلا

انظر الأنقال على ذلك في شرحه، لكن ذكر أبو العباس الملوي في بعض تقاييده ونحوه في شرح العمل المذكور أن بعض قضاة فاس أفتى بوجوب الحكم بالبشارة مطلقاً مراعاة للمصالح العامة وخوفاً من ضياع أموال المسلمين بكتمان الضوال والمسروق‏.‏ قال‏:‏ وقد نص العلماء على أن الفتوى دائرة على مقتضى الحال وحيث أخذت البشارة من المسروق له، فإنه يرجع بها على السارق لأنه ظالم تسبب في إغرام رب البشارة‏.‏ قلت‏:‏ وهذه الفتوى جارية على ما تقدم عن ابن سراج وغيره من رعي المصالح وعلى مقتضاها عامة المسلمين اليوم فلا يستطيع أن يردهم عن كتمان الضوال راد إن لم يأخذوا البشارة والله أعلم‏.‏

‏(‏ولا يحد بزمان لاحق‏)‏ أي لا يجوز أن يؤجل عمل الجعل بأجل ولا يقدر بزمن كيوم أو عشرة مثلاً لأنه قد ينقضي الأجل قبل تمام العمل، فيذهب سعيه باطلاً‏.‏ ‏(‏خ‏)‏‏:‏ بلا تقدير زمن إلا بشرط ترك متى شاء فيجوز حينئذ ضرب الأجل فيه كما مر، وذلك لأنه مع عدم الشرط دخل على التمام فقوى الغرر بسبب ذلك مع ضرب الأجل، بخلاف ما إذا شرط الترك متى شاء مع الأجل فقد دخلا على التخيير فخف بذلك الغرر وسكت الناظم عن شرط النقد فيه وهو ممنوع لتردد المنقود بين السلفية والثمنية لا إن نقد تطوعاً فيجوز، وهل على اختلافهما في قدر الجعل وحكمه أنه كالصانع، فإن كان الآبق مثلاً محوزاً بيده وأشبه قوله، فالقول له أشبه الجاعل أم لا، وإلاَّ صدق الجاعل إن أشبه وإلا تحالفا وكان له جعل مثله‏.‏

فصل في المساقاة

مفاعلة من السقي وأصله مساقية تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فتكتب بالهاء وتنصب الفتحة لأنها مفردة ولفظها مفاعلة، أما من الواحد وهو قليل كسافر وعافاه الله أو يلاحظ فيها العقد وهو منهما، فيكون من التعبير بالمتعلق بالفتح وهو المساقاة عن المتعلق بالكسر وهو العقد وهي رخصة مستثناة من كراء الأرض بما يخرج منها، وذلك في بعض صورها كالبياض الذي بين الأشجار يعمل فيه العامل بجزء من زرعه ومن بيع الثمرة والإجارة بها قبل طيبها وقبل وجودها، ومن الإجارة المجهولة ومن بيع الغرر قاله عياض‏.‏ قال في الكافي‏:‏ ومعنى المساقاة أن يدفع الرجل كرمه أو حائط نخله أو شجرة تينه أو زيتونه أو سائر مثمر شجره لمن يكفيه القيام بما يحتاج إليه من السقي والعمل على أن ما أطعم الله من ثمرها يكون بينهما نصفين أو على جزء معلوم من الثمرة‏.‏ ابن عرفة‏:‏ هي عقد على عمل مؤنة النبات بقدر لا من غير غلته لا بلفظ بيع أو إجارة أو جعل فيدخل قولها لا بأس بالمساقاة على أن كل الثمرة للعامل ومساقاة البعل انتهى‏.‏ فقوله‏:‏ بقدر يشمل ما إذا كان القدر كل الثمرة أو بعضها، ولذا قال‏:‏ فيدخل الخ‏.‏ ولو عبر بجزء لم يشمل ذلك وهو عطف على مقدر أي يقدر من غلته لا من غير غلته ولا تنعقد عن ابن القاسم إلا بلفظها، وعند سحنون بكل ما يدل عليها ولو بلفظ الإجارة وهو مقتضى تعريف ابن عرفة المتقدم، ويؤيده ما تقدم صدر الإجارة من أنه إذا قال له‏:‏ بعتك سكنى داري فذلك غلط في اللفظ وهو كراء صحيح‏.‏ وقال ابن يونس حسبما نقله البرزلي وغيره في المغارسة ما نصه‏:‏ ولا فرق بين أساقيك وأواجرك ولا يضر قبح اللفظ إذا حسن العمل، ولم يفرق ابن القاسم بينهما وهو أصوب انتهى‏.‏ فعلى هذا لابن القاسم قولان وافق في أحدهما قول سحنون، وصوبه ابن يونس كما ترى وذلك مما يرجح ما عليه عمل الناس اليوم من عقدها بغير لفظها، وإن كان ‏(‏خ‏)‏ اقتصر على الأول فقال‏:‏ بساقيتك الخ‏.‏ فلا يشوش به على الناس اليوم والله أعلم‏.‏